تتحدث كبرى نعمتي عن ذكرياتها المدرسية

ولدت كبرا نعمتي العام 1956م في مدينة إيلام وعملت في دائرة التربية والتعليم لمدة 28 عاماً. حيث تزامن جزء من سنوات خدمتها مع الحرب المفروضة. حاورتها مراسلة موقع التاريخ الشفوي الإيراني للحديث عن تلك السنوات.

أين كنتِ عندما بدأت الحرب؟

دخلت التعليم في نوفمبر 1979. في وقت مبكر، قمت بتدريس علم الاجتماع ومعظم العلوم الدينية، ولكن عندما اندلعت الحرب، كنت مديرة لثانوية التربية وأيضاً ثانوية بروين إعتصامي . قبل بدء الحرب، كانت هناك تقارير تتحدث عن وصول العراقيين إلى الحدود. استشهد أول شهيد من إيلام وهو روح الله شنبه اي والذي كان يعمل في الحرس الثوري واستشهد على الحدود. لكننا لم نأخذ الوجود العراقي على محمل الجد. لم تكن لدينا خبرة ولم نشهد الحرب عن قرب.

في ظلّ هذه الظروف، كيف تم تشكيل وإدارة مدارس إيلام؟

أقيمت الصفوف حتى اشتداد القصف. لا أنوي أن أتحدث عن ثقتي العالية حينها، لكنني لم أخف حتى حلقت 10 إلى 12 طائرة فوق سماء المدينة وحينها شعرت بالخوف الشديد… كانت صفوفنا الدراسية مفتوحة عندما حلقت الطائرات فوق المدينة، مع تصاعد القصف، أعلنت دائرة التربية  والتعليم أنه لم يعد مسموحاً بإقامة الصفوف الدراسية ويجب إخلاء المدارس ويجب عليك مغادرة المدينة. خاف بعض الطلاب ولم يحضروا لكن الصفوف لم تغلق. ووقع أول قصف علي مدينة إيلام في العام الأول للحرب في الساعة العاشرة مساءً واستهدف منطقة تقع  بالقرب من بنك صادرات. استشهد 4 أشخاص وجرح عدد آخر. كانت الحرب في بدايته ولم يكن هناك قتال عنيف. مع اقتراب نهاية الحرب، كانت تحلق 10 إلى 15 طائرة فوق سماء المدينة. ولأننا كنا قريبين من الحدود، كانت الطائرات تحلق بسهولة وتقصف وتطلق الصواريخ.

يخرج الطلاب والمعلمون أثناء القصف من الصفوف الدراسية، وحينها تسمع الصيحات تتعالي في المدرسة. كان الجميع يركضون نحو الجدران وتحت الأعمدة. بعد أن تغادر الطائرات، كنا نعود إلى الصف. كان لدينا معلم لمادة اللغة العربية أعتقد أنه إنتقل إلى رحمة الله. ذات يوم أثناء تواجده في الصف، عندما جاء صوت القصف، نزل هذا الرجل بسرعة من الدرج وفتح ذراعيه ووقف تحت الدرج. كان لديه وجه مضحك. لم يكن التلاميذ خائفين حقاً، لكنه كان خائفاً جداً.

منذ متى استقريتم في الخيام والقرى؟

لا أعرف في أي سنة بالضبط، لكن حدث في الكثير من المرات أننا غادرنا المدينة. مكثنا في المدينة لمدة عام أو عامين، ثم عُقد اجتماع لدائرة التربية والتعليم وقيل لنا أن نذهب إلى القرى المجاورة. ذهبنا إلى القرى المحيطة ونُصبت المزيد من الخيام.

كان موظف اسمه إسماعيل رستمي، كان شخصاً استثنائيا. لم يكن يعتني بمنزله وحياته بقدر ما كان يقوم بواجبه تجاه المدرسة رحمه الله. كان يستمع ليرى متى يجب أن نذهب، بمجرد أن أدرك أننا نريد مغادرة المدينة ونصب المخيم في القرى، كان يذهب قبلنا ويهيأ الأجواء. في أحد الأيام، دون إخباري، حمل أثاث ومستلزمات المدرسة وأخذها معه. ولأنه كان من العشائر الرحّل بالفعل، أقام خيمة ثم أخبرني بمكان تواجده.

في أي القرى قضيتهم أكثر وقتكم؟

عادة ما نأخذ ما نحتاجه إلى القرية مع والدينا. كانت الطرق متسخة ومغبرة على طول الطريق. كان الجو صعباً للغاية حين تمطر، لكن في الليل كنا نأتي إلى القرى المجاورة. بمجرد أن أصل إلي دائرة التربية والتعليم، كنت أبلغهم بما يحدث،علي سبيل المثال عندما أكون في قرية جالسرا أو كله جار وهما بعيدتان. كلما زاد القصف، ذهبنا واستأجرنا منزلاً أو غرفة في تلك المناطق النائية. أحياناً كنت أذهب وحدي وأستأجر غرفة، لأنّ والديّ كانا في قرية جالسرا ولم يكن بإمكانهما الحضور معي. على سبيل المثال، كنت أذهب إلى كله جار وأستأجر منزلاً وأذهب إلى العمل في الصباح. ذات يوم كنا في طريقنا إلى جالسرا مع مساعد المدرسة عندما بدأ القصف. ركضنا في الوحل.

كيف كانت إدارة المدرسة في مثل هذه الظروف؟

في هذه الظروف، كان الطلاب يتفرقون، ويأتي بعضهم إلى حيث كنا ذاهبين والبعض يذهب إلى قرى أخرى. أقمنا صفوفا دراسية  في الخيام، وكان الأطفال يجلسون على الأرض. طالما كان الطقس جيداً، كانت الصفوف الدراسية تعقد في الهواء الطلق ويقوم المعلمون بالتدريس، ولكن عندما يكون الطقس بارداً، عادة ما نعقد صفوفاً دراسية في مدارس القرى ولا نشكل الصفوف عندما يكون القصف شديداً، أي أنّ الأطفال لا يأتون، ويذهب بعضهم إلى أقرب مدرسة بالمنطقة التي يعيشون فيها. في ظل هذه الظروف، قمنا بعقد جلسات امتحانات القبول المهمة وامتحانات تدريب المعلمين ومثل هذه الإختبارات في الوقت المناسب. أجريت الامتحانات في أماكن مثل معامل الدواجن وحضائر المواشي وماشابه ذلك. كنا ننظفها ونضع الطاولات والكراسي وأعددناه للإختبارات. رحم الله روح ذلك الموظف الراحل، لقد عمل بجد وفعل كل ما كان علينا نحن القيام به. كما كانت دائرة التربية والتعليم تعلن عن مكان انعقاد الامتحان عبر الإذاعة والتلفزيون. شجعونا كثيراً عندما جاء المفتشون. لدي العديد من لوحات التقدير من تلك الفترة.

هل جمعتم المال للجبهات في المدرسة؟

نعم فعلاً. كان الطلاب نشيطين للغاية في إرسال التبرعات النقدية وغير النقدية مثل الطعام والأوشحة ونسج القبعات للمقاتلين. لقد قدموا المساعدات إلى الجبهة بأي طريقة ممكنة باهتمام كبير. جمعنا التبرعات في المدرسة ثم أرسلناها إلى دائرة التربية والتعليم.

بالإضافة إلى التبرعات النقدية وغير النقدية، قمت بإرسال كتب الشهيد تشمران إلى الجبهة على نفقتي الخاصة. لقد أحدث الشهيد تشمران تحولاً روحياً في داخلي. كنت أرغب في مشاركة كتاباته مع الآخرين. كانت ذكرياتي المريرة عن الحرب هي استشهاد الشهيد تشمران. كانت شهادته مؤلمة ومميتة بالنسبة لي. عندما استشهد الدكتور تشمران شعرت بالوحدة التامة لأنني قرأت مذكراته ومخطوطاته. لقد أحببت أدعيته ومناجاته في التعبير عن ذكريات كردستان وكان حصار سنندج مثيراً للاهتمام بالنسبة لي. ولأنهم كانوا أعزاء عليّ وكانت ذكرياتهم وشخصيتهم مؤثرة جداً علي نفسياتي، فقد أرسلت هذه الكتب إلى المقاتلين.

كنت مهتمة بالوضع السياسي والشؤون الجارية، حيث أعقد اجتماعات دورية للأطفال وألقي المحاضرات. في كل عام، ولطالما المدارس كانت فعالة، كنا نحتفل بعشرة الفجر المباركة بكل الطرق الممكنة ومع التسهيلات والإمكانيات المتاحة. تعاون الطلاب في الزخرفة وكتابة المقالات في صحيفة الحائط وكتابة الخطب والقصائد وتنظيم الاحتفالات. كما قمنا بجمع الأموال لفلسطين على مدار العام.

في إيلام، هل تعاونوا بشكل مباشر مع مقرات دعم الحرب؟

كنت أعمل مع جهاد البناء لفترة، وكانت معظم أنشطتنا في مجال محو الأمية وكانت مساعدتنا من خلال دائرة التربية والتعليم. قبل الحرب، كنت في المدرسة حتى المساء، وفي المساء كنت أذهب إلى الضواحي. كان صف لمحو الأمية للأطفال وقمت بتدريسهم. كان التدريس مجااناً ولم يكن ثمة ترقيات أو راتب إضافي. قامت منظمة جهاد البناء بعمل كبير لإزالة الحرمان في القرى. أنا أعمل معهم منذ أن كنت طالبة علم اجتماع في شيراز. كان مكتبها في شيراز تحت إشراف سماحة آية الله مكارم الشيرازي. على حد علمي، كان موقع مكتبها هو كلية الهندسة بجامعة شيراز. جهاد البناء كان يقوم بالتنمية الصحية والطبية والاقتصادية والثقافية المتعلقة بالقرى في ذلك الوقت، كما عملت هناك وذهبت إلى القرى. على سبيل المثال، كانت فتاة قد فقدت والديها. أحضرناها من القرية وسلمناها إلى كلية الطب. كنت مع الفتاة عندما خضعت لعملية جراحية لأنها كانت وحيدة فريدة. بعد التخرج من جامعة شيراز، عدت إلى إيلام وذهبت إلى العمل في منظمة جهاد البناء.

جاءت خلال الحرب السيدة فاطمة ناهيدي إلى إيلام من قبل منظمة جهاد البناء لمساعدة سكان القرى المحرومة، وكنت أذهب معها عندما كنت عاطلة عن العمل.

لا أعرف إن كانت طالبة في فرع الطب أو التمريض، لكنها قامت بعمل طبي، لأنّ القرى كانت محرومة جداً، كما كانت تذهب إلى المراكز الصحية وساعدت المحرومين. أنا كردية وقد قمت بالترجمة من الكردية إلى الفارسية وكانت تأتي إلى منزلنا ليلاً. بسبب عدم وجود مهجع للنساء، قدمها لنا قسم التربية والتعليم.

جدير بالذكر، تخرجت بعد الثورة من الجامعة لكن لفترة من الوقت عندما كانت تندلع احتجاجات في الشوارع، وأجواء الثورة، أغلقت حينها الجامعة وعدنا إلى بيوتنا. بعد انتصار الثورة، عندما عدنا إلى الجامعة، رأينا كل غرفة قد أصبحت حزباً بمفردها. من بين هذه الأحزاب والتكتلات، يمكن الإشارة إلي منظمة المجاهدين، فدائي خلق، أنصار الأكراد، و…إلخ. لا أتذكر اسم الجميع.

كانت الأغلبية والأقلية والدعاية واسعة النطاق، لم يكن هذا هو الحال من قبل. شاركت في أحد اجتماعات منظمة المجاهدين، وبعد الاجتماع عندما أردنا الخروج من المحاضرة رأينا أنّ المكان أصبح مزدحماً بالطلاب، فقالوا تعالوا واستلموا بطاقة، قلت: لماذا؟ ” قالوا للانضمام إلينا، أي أنهم أرادوا تجنيد أعضاء والقول إنّ هؤلاء هم من أنصارنا، وذهبت لأرى ما يجري، لكنني والعديد من الآخرين لم نأخذ البطاقة. في المرة التالية التي عقد فيها الطلاب الموالون للأكراد اجتماعاً بملابس كردية، ذهبت إلى اجتماع أو اجتماعين، وعلى الرغم من أنني كنت مهتمة جداً بالقضايا السياسية، شعرت أنها لا تتناسب مع معتقداتي ولم أذهب بعدها، ولكن بعد ذلك تعاونت مع قوى ثورية مثل منظمة جهاد البناء.

هل ساعد راتبك أثناء الحرب على تقديم الدعم للأسرة؟

لحسن الحظ، لم يكن والدي بحاجة إلى هذا المال ولم يهتم براتبي. كان والدي من أغنى الناس في المدينة في ذلك الوقت، كان في السوق ويعمل في مجال بيع الأقمشة. بالطبع، في ذلك الوقت، لم تكن المتاجر تبيع سلعة معينة فحسب، بل كان والدي بائعاً للأقمشة، وكان يبيع المواد الغذائية المجففة أيضاً. كان لديه الكثير من الأراضي وقطعان كثيرة خارج المدينة، وكانت لدينا حديقة كبيرة. قبل الثورة، كان قد شرع أيضاً في أداء فريضة الحج. يعتقد والدي أنّ راتبي ملك لي ولم يطرح أسئلة عنه. حتى أنني أتذكر حين كنت جالسة على الشرفة ذات يوم، قال لي أحد إخوتي مازحاً، “ألا يجب أن نعرف كم هو راتبك؟ لقد تم تعييني للتو. فغضب والدي كثيراً وقال له: “لماذا تسأل مثل هذه الأسئلة؟”

يجب أن أقول أنه عندما كنا خارج المدينة، كان التجار الذين يبيعون المواد الخام والضروريات الأساسية للناس، ينصبون الخيام في الشوارع وتذهب الناس إلى هناك للشراء.

كم كان عدد أشقائك وشقيقاتك؟ ألم يستشهد أحد من أفراد أسرتك خلال الحرب؟

نحن 4 أخوات و 5 إخوة .. استشهد أخي الأصغر علي أشرف في 20 فبراير 1983 في عملية والفجر 5 بمنطقة جنكوله. في ذلك الوقت، كنا تقريباً خارج المدينة ونسكن في جالسرا. كنت في الشارع في ذلك اليوم وكنت على وشك العودة إلى المنزل عندما توقف أحد أقاربي أمامي بالسيارة وكان ابن أخي معه. وقال: إنّ أخاك قد استشهد. لم آخذ الأمر على محمل الجد حتى ذهبنا إلى منزل أخي، الذي كان قريباً، ورأينا، نعم، كانوا ينقلون السجاد من مكان آخر. أدركت أنّ شيئاً ما قد حدث لهم. كما استشهد أحد أبناء أختي الذي يدعى رواله رشنوادي. ذهبت أنا وأختي وثلاثة منا إلى الحج. لم يكن عمره أكثر من 19 أو 20 عاماً، لكنه كان يتمتع بروح عرفانية عالية. أثناء طواف بيت الله، شعرت أنه ليس معنا وأنه كان يسير في مكان آخر. كان التذكار الوحيد الذي اشتراه لنفسه من مكة هو الكفن. باختصار، بعد عودتنا إلى مكة، وفي عام 1987م، استشهد في العملية الكيميائية التي وقعت في منطقة شميران. كانت شهادته أشد وطئة عليّ من إستشهاد أخي.

اين كنت عندما انتهت الحرب؟

بعد عملية مرصاد، امتلأت السماء بطائراتنا. كنا في المنزل ولم نخرج. كان الوضع فظيعاً جدا. بعد حوالي يوم أو يومين، كانت المدينة فارغة وتوجه الجميع إلى كرمانشاه القريبة من إيلام. واصلت الإذاعة الإعلان عن ضرورة أن يكون الشعب مستقراً ومقاوماً أمام كيد الأعداء والمتربصين، وهكذا كانت تمر الأيام واللحظات، ولكن كانت هناك سلسلة من الأخبار السلبية المؤلمة التي تقول إنّ المدينة آخذة في الانهيار. الحمد لله انتهت عملية مرصاد. عندما قبل الإمام القرار وقال إنني شربت كأس السم، كان من الصعب عليّ سماع هذه الجملة.

شكراً لك على الوقت الذي منحتيه لمراسلة موقع التاريخ الشفوي الإيراني لمحاورتكِ.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *